رواية
(فوضى الفصول ـــ محمد باقي محمد - الطبعة الأول)
وسوف اكتب جزء واحد منها
ويمكنك تحميل القصة كاملة من الرابط الذى فى اسفل الموضوع
جزء من الرواية
______________________________
“ طفولة “
الرايات
خافقة تحت سماء لم تتكّون
بعد…
أما نحن المنذورون لنحملها
تحت الريح
وتحت المطر
فعلينا أن نتكّون أيضاً.
ـ سعدي يوسف ـ
“ طفولة “
- 1 -
هكذا كانت الصباحات تهلّ مؤتلقة !
وعبر البراري المنداحة على مدِّ النظر كنت تركض حتى تتوحـد بالسمـاء، وترى إلى مـا لا نهايـة، بدءاً بسفوح "طوروس" ذات الـلـون الأسود المتداخـل بالبنفسجي شمـالاً، وانتهـاء بجبل "عبد العزيز" الرمادي اللون، ينهض عـن الأرض كنهدٍ جنوباً !
مأخـوذاً بأصـداء الطفولـة كنت تقطـع الفلــوات المرصّعــــــة بالعاكول والخروب والأعشاب المتيبسة على ضفة "الزركـان"، وآنها لم تكن تعــرف أن زمنـاً سيجيء لا يشبـه ما قبلـه، زمنــاً تفتقـد الأشيـاء فيــه تناغمهــا، فيغيض " الزركــــان" من قبل أن يتناسل مع "الخابور"، وتتقزم من حوله أشجار البطم!
وفي حـلّك وترحـالك كـــان قطيـع الغنــم، واندفــاع الطفـولـة النزقـة خارج مـدارات المألـوف يرافقانـك، بعيداً تقـذف عصـاك، فيركض "بطـاح" لإحضارها، وتسابقه مشجّعاً، قاطعـاً الغيضات المالحة، مخترقاً غلالة الغبار الرقيقة، لكن "بطاحاً" كان يسبقك إليها !
غرباً كنت توغـل حيث الهواء ـ بُعَيْد الفجر ـ مفعمٌ برطوبـة رخيّـة، فيما "الجدَيدْة" ماتزال نهب نـوم لذيذ، فيشرع "الأحيمر" صدره للريح الغربية، يفتح خياشيمه ليعبّ منها، وتصهل الروابي والتـلال الصغـيرة بصدى الجرس المعّلق في رقبة "المرياع" !
صعداً نحو مركز القبة الزرقـاء الشفيفة، يرتفع قـرص الشمس، فتنبعث في الجـــو رائحة عشب يفقـد ما تبقى في الأنساغ من ريـق، وتلجـأ الطيـور و
الزواحف إلى حمى ذروة تقيها، و تتمايـل سوق القمح، و هي تنوء تحـت سنابلها، وتتلفح البرية بهواء راكد !
لابأس ! ما يزال الطقس محتملاً !
كنتَ تقــول، وتركـــض لتلاعب النعاج، تندفع من بعيد ملوحاً بعصاك، فيهتاج القطيع، وينحر يميناً و يساراً، ثم تعود لتجميعه، فينخفض ثغاؤه، تلاعب خروفـاً، وتضحــك، تأخــذ التراب بيـــن أصابعك، تفركه فيلثغ بالندى، تقذفه بعيداً إلى الأعلى، تنشره فـي وجه السماء، وترفع رأسك نحو الشمس، لكن هالة البهاء الخاطف لسناهـا يفجؤك، فتديـر رأسـك بسرعـة، و قد غطت يداك وجهك كله، بعد قليل تبعدهمـا، وتفتح عينيك، لكنك لا تـرى خلا السـواد ـ فيه ـ تومض نجوم صفر وحمر، ثم تعاودك الرؤية بالتدريج!
كانت المسافـات تسرقك، والوهـاد المستلقية في البهاء الطلـق تطويك، وها أنت تبتعد عن القرية، ولا شيء يوقفك، وقد يحدث أن تمرّ بك عربـة سيارة، فتسابـق ظلك إليهـا، وتنقلب يداك إلى مناديل ملوحة، ففي المعتاد من الأحوال لم تكن ترى عربة مثلها إلا مرة كل عام! كــــان ذاك آن يحّل الآغـا بالقريـة، فيرتفع الصخب، ويجتمـع الفلاحون في بيت المختار،بينما يتراكض الأطفال حول المضافة، يتأملـون العربـة بدهشـة، ثم يسقـط خـروف مسكين ضحيــة لتلك الزيارة !
تخـوم المنطقـة الجبليـة تندفـع نحـوك، وبفـرح غـامر تعتلـــي الصخور، لا أحد ـ إلاّك ـ عبر الجهـات الأربع ! سيد ما حـولك أنت، و قد تحمل آخـر ألسنة الريــح صـوت دوري ، أو درغل واقـع في الفخـاخ العديـدة التي
كنتَ تعدّها بمهـارة، فيصل إحساسك بالفـرح إلى الذروة !
عنـد الظهيـرة كـل شيء كـان يلتهب، ويصبح خانقـاً ومغبـراً، فتتمــدد في ظلِّ أشجـار البطم، وتمسح عرقـك، تسيح مـــع دورة الزمن متذكراً أيام الشتاء، فتبتسم ساخراً من نفسك!
في الشتاء أيضاً لم يكن ثمة ملجأ خلا الصخور!
حتى إذا وصلت أمك مع الحلاّبات عصراً، لـم تعـد الأرض تحملك، فتروح تنظر إلى وعاء الحليب وهو يمتلئ، ويعلـوه الزبـد، بينا تعالـج أصابـع أمـك أضرع النعـاج بخفـة ودرايـة، كنت تتمنّى أن تنحني لتـرى خيوط الحليب الحريرية، وهي تصطدم بالآنية النحاسية، بدلاً من الإمساك برؤوس الشياه العصية على الهدوء، لكنك ما تلبث أن ترفع الإناء نحو الأعلى، وتشرب الحليب الطازج بنهم، ناسياً كل شيء!
وحين كانت أمك تبتعد، وتندمج مع خط الأفـق الراحــل نحــو القرية، كانت يدك تمتدّ متسللة إلى جيبك، لتخرج علبة الثقاب التي سرقتها من الدار، ثم تندفع هنا وهناك، تجمع روث البهائم، وبقايا القش الجـاف، وتشـوي مـا اصطدتـه مـن عصـافير، إلـه المكـان ــ أنـت ــ في لحظـة واقعـة خارج مسارات الزمن، وانكسارات العالم ! بيد أن الغروب ما يلبث أن يزحف، فينحدر الطريق المُترب عائداً إلى القرية، يجرك خلفه منهكاً ملوّحـاً، وخلفك يسير القطيع مطاطئاً سابحاً في آخر التماع للشمس المحتضرة، بينما يتدلى لسان "بطاح" الأحمر! ومع اقتراب القطعان من القرية، كانت غلالة كثيفة من الغبار تتداخل بثغاء النعاج، وأصوات الرعاة، فيتحول بئر القرية، ومورد الماء إلى قفير نحل ـ فيه ـ تصطف رؤوس النعاج العطشى، ويشعر المتأمل في المشهد عن كثب بذلك الاتسّاق المهيب في الطبيعة، وهي تكشف عن أسرارها عبر تلك الهمهمات الغامضة المتبادلة بين عناصر الكون الأزلية، فيما يرين وجوم غريب على الطيور الداجنة والزواحف والهوام، وكأنها هي الأخرى مأخوذة بقدرة الخالق، ويروح الكبار في السن يسبّحون بحمد الإله في ما تبقّى لهم من زمن،في الوقت الذي يتراكض ـ فيه ـ الأهالي لمساعـدة الرعاة على منع القطعان من الاختلاط، والتأكد من سلامتها، فإذا ورد القطيع، ألفيت أباك في الزريبة ينتظر، بعد أن أعدّ المذاود بالعلف!
الإنهاك يداهمك، يأخذ مداه داخل الشرايين بعـــد يوم مرهق، و عيناك المطفأتان تجهدان في طلب الراحة ، فقط عليك أن تنتهي من تعليف القطيع، وتسكت تلك المعدة الجائعة !
لتحميل باقى الرواية