صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين الأيوبي (1137-1193): مقاتل وقائد عربي إسلامي،
مؤسس السلالة الأيوبية في مصر وسوريا.انتصر على الصليبيين وحرر القدس من احتلالهم.
ولد في تكريت (العراق) من أصل كردي. عاش 10 سنوات في دمشق في بلاط نور الدين سلطان السلاجقة.
رافق عمه شيركوه في حملات عسكرية ضد الفاطميين في مصر (1164 و1167 و1168). عند موت شيركوه،
خلفه صلاح الدين وزيراً في مصر. شاءت الأقدار أن يتولى صلاح الدين الأيوبي الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي،
سنة (564هـ = 1168م)، خلفا لعمه "أسد الدين شيركوه" الذي لم ينعم بالوزارة سوى أشهر قليلة،
وبتوليه هذا المنصب تغيرت حركة التاريخ في القرن السادس الهجري، فسقطت دولة كانت في النزع الأخير،
وتعاني سكرات الموت، وقامت دولة حملت راية الجهاد ضد الإمارات الصليبية في الشام،
واستردت بيت المقدس من بين مخالبهم، بعد أن ظل أسيرا نحو قرن من الزمان.
بناء الوحدة الإسلامية :
قضى صلاح الدين السنوات الأولى بعد سقوط الدولة الفاطمية في تثبيت الدولة الجديدة،
وبسط نفوذها وهيبتها على كل أرجائها، خاصة أن للدولة الفاطمية أنصارًا وأعوانًا ساءهم سقوطها،
وأحزنهم إضعاف مذهبها الإسماعيلي، فناهضوا صلاح الدين، ودبروا المؤامرات للقضاء على الدولة الوليدة قبل
أن يشتد عودها، وكان أشد تلك الحركات مؤامرة "عمارة اليمني" للقضاء على صلاح الدين، وفتنة في أسوان
اشتعلت لإعادة الحكم الفاطمي، لكن تلك الحركات باءت بالفشل، وتمكَّن صلاح الدين من القضاء عليها تماما.
وبعد وفاة "نور الدين محمود" سنة (569هـ = 1174م) تهيأت الفرصة لصلاح الدين
الذي يحكم مصر نيابة عنه، أن يتطلع إلى ضم بلاد الشام إلى حكمه؛ لتقوية الصف الإسلامي،
وتوحيد الجهود استعدادا للوقوف أمام الصليبيين، وتحرير الأراضي المغتصبة من أيديهم،
فانتهز فرصة استنجاد أحد أمراء دمشق به، فسار إلى دمشق، وتمكن من السيطرة عليها دون قتال
سنة (570هـ = 1174م)، ثم على حمص وحماة وبعلبك، ثم أعلن عن استقلاله عن بيت نور الدين محمود
وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب سلطان، وأصبح حاكما على مصر، ثم عاود حملته على الشام
سنة (578هـ = 1182م)، ونجح في ضم حلب وبعض المدن الشامية، وأصبح شمال الشام كله تحت سيطرته،
وتعهَّد حاكم الموصل بإرسال مساعدات حربية إذا طلب منه ذلك. واستغرق هذا العمل الشاق
من أجل توحيد الجبهة الإسلامية أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة
من سنة (570هـ = 1174م) إلى سنة (582هـ = 1186م)،
وهي فترة لم يتفرغ فيها تماما لحرب الصليبيين. من نصر إلى نصر اطمأن الناصر صلاح الدين
إلى جبهته الداخلية، ووثق تماما في قوتها وتماسكها،
فانتقل إلى الخطوة الأخرى، وانصرف بكل قوته وطاقته إلى قتال الصليبيين،
وخاض معهم سلسلة من المعارك كُلِّلت بالنصر، ثم توج انتصاراته الرائعة عليهم
في معركة "حطين" سنة (583هـ = 1187م)، وكانت معركة هائلة
أُسر فيها ملك بيت المقدس وأرناط حاكم حصن الكرك،
وغيرهما من كبار قادة الصليبيين.
وترتب على هذا النصر العظيم، أن تهاوت المدن والقلاع الصليبية،
وتساقطت في يد صلاح الدين؛
فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا
وبيروت وغيرها،
وأصبح الطريق ممهدا لأن يُفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة،
حتى استسلمت وطلبت الصلح،
ودخل صلاح الدين المدينة السليبة
في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)،
وكان يوما مشهودا في التاريخ الإسلامي.
ارتجت أوروبا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة،
وتعالت صيحات قادتهم للأخذ بالثأر والانتقام من المسلمين،
فأرسلت حملة من أقوى حملاتهم
الصليبية وأكثرها عددا وعتادا، وقد تألفت من ثلاثة جيوش ألمانية
وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى موقع الأحداث، في حين غرق ملك ألمانيا
في أثناء عبوره نهرًا بآسيا الصغرى، وتمزق شمل جيشه. استطاع الجيش الفرنسي بقيادة
"فيليب أغسطس" من أخذ مدينة عكا من المسلمين،
واستولى نظيره الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" من الاستيلاء على ساحل فلسطين
من "صور" إلى "حيفا"؛ تمهيدا لاستعادة بيت المقدس، لكنه فشل في ذلك،
واضطر إلى طلب الصلح، فعُقد صلح بين الطرفين، عُرف بصلح الرملة
في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)،
ولحق ريتشارد بملك فرنسا عائدا إلى بلاده. إنجازات حضارية يظن الكثير من الناس
أن صلاح الدين شغلته أعمال الجهاد عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية،
ولعل صورة الفارس المحارب صلاح الدين قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته،
فأخفت بعضا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة.
وأول عمل يلقانا من أعمال صلاح الدين :
هو دعمه للمذهب السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة،
هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي،
وسُميت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تغله أرض موقوفة عليها،
وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببا في انتشار
المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.
وبرز في عصر صلاح الدين :
عدد من الشخصيات العلمية والفكرية، مثل "القاضي الفاضل" المتوفَّى سنة (596هـ = 1200م) رئيس
ديوان الإنشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة، وكان صلاح الدين يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة،
و"العماد الأصفهاني" المتوفَّى سنة (597هـ = 1201م)، وصاحب المؤلفات المعروفة في الأدب والتاريخ،
ونجح مع القاضي الفاضل في ازدهار ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية.
وعُني صلاح الدين ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع،
ومن أشهر هذه الآثار :
"قلعة الجبل"؛ لتكون مقرًّا لحكومته، ومعقلا لجيشه،
وحصنا منيعا يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن صلاح الدين لم يتمكن
من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقرا لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب،
وأحاط صلاح الدين الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة،
أحاطها جميعا بسور طوله 15كم، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج،
ولا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة.
وعُني صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية
التي تعين الناس وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض
على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجئون إلى
المساجد، وجعل من مسجد "أحمد بن طولون" مأوى للغرباء من المغاربة.
واشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛
حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة
معاملة طيبة، وأبدى تسامحا ظاهرا في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين
بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماما ما ارتكبه الفرنج
الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م)
من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.وفي أثناء مفاوضات صلح الرملة
التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان صلاح الدين، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه
في (27 من صفر 589هـ = 4 من مارس 1193م)،
وفاتـــه :
كان يوم وفاته يوما لم يُصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين.
ولما تُوفِّي لم يخلف مالا ولا عقارا، ولم يوجد في خزائنه شيء من الذهب والفضة
سوى دينار واحد، وسبعة وأربعين درهما،
فكان ذلك دليلا واضحا على زهده وعفة نفسه وطهارة يده