عن الانتماء لنتكلم

كلنا نعرف هذه الكلمات التي قالها نبينا الكريم –صلوات الله وسلامه عليه -حين خرج من مكة مجبرا قاصدا المدينة المنورة ليبدأ منها نور الدعوة وينتشر في شتى مشارق الأرض ومغاربها.. هكذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم- معبرا عن حبه لموطنه الذي نشأ فيه ولامست قدمه الشريفة أرضه وخطت على كل ذرة فيه، وتفتحت عينه على رؤية كل ركن من أركانه، فأحبه وعشقه وذاب غراما فيه، ففيه لعب طفلا، وفيه رعى صبيا، ومنه سافر متاجرا شابا عفيا، وبين غيرانها (جمع غار) تفرد زاهدا عابدا..

يقول نبينا –صلى الله عليه وسلم- إنها أحب بلاد الله إلى قلبه، وإنه إذ يخرج منها فليس لعيب فيها، ولكن لعيب في أهلها الذين آذوه وأساءوا إليه، فلم يجد مفرا سوى الهجرة، لكنها الهجرة المبنية على الإيمان بضرورة العودة مجددا للإصلاح.. إصلاح وطنه وجعله منارة ينبعث منها النور.. هذا ما فعل نبينا الكريم، مدفوعا بحبه لبلاده والانتماء إليها، ومعضدا ذلك بحبه لأهله الذين تربى بينهم، وعاش معهم، وطعم مما يطعمون، وشرب مما يشربون..

ولننظر سويا إلى لغتنا لنفهم سويا معنى هذه الكلمة (الانتماء).. إننا إذا أردنا أن نعرف معنى هذه الكلمة لغويا فإننا سنكشف عنها في "نما- ينمو" و"نما الشيء" أي زاد وكثر.. و"نما الحديث" أي شاع.. و"نما فلانا إلى فلان" أي نسبه إليه، ومنها "انتمى" أي انتسب..

ألا تجد في ذلك ما هو جدير بالرصد والملاحظة؟ ألا ترى أن الكلمة، بما بها من معان دالة على الزيادة والانتشار والانتساب، تعبر بصدق عن كل ما نقصده بها.. ألا ترى أنك تزيد –حجما وسنا ومكانة- بمرور الأيام منتميا لوطنك قاطنا فيه؟ ألا ترى أنك تنتشر فيه يوما بعد يوم فتخطو بقدميك كل شبر فيه، فتزداد تعلقا به، إذ أصبح جزءا منك؟ ألا ترى أنك –من المفترض- تنتسب إليه، وتتشرف به؟

وحتى لا تكون كلماتنا مجرد شعارات براقة لا تقدم جديدا.. فلنتأمل جيدا الصورة، ألا ترى تعلقك بأشيائك.. حجرتك.. سريرك.. ملبسك.. ساعتك.. جهاز الكمبيوتر الخاص بك –أو ربما الجهاز الذي اعتدت أن تستخدمه سواء في السيبر أو العمل- والذي تقرأ كلماتنا من خلاله..

ألا ترى تعلقك بالمكان الذي ولدت فيه وعشت به أيام صباك وشبابك وربما كهولتك؟ ألا تحن إلى كل مكان مشيت فيه بقدمك؟ ألم يدر في ذهنك مثلا أن تذهب إلى المدرسة التي كنت فيها طفلا؟ ألم يراودك الحنين للشوارع التي لعبت فيها صغيرا؟ ألا تشعر بأنك مشتاق لناس عرفتهم منذ زمن وانقطعت علاقتك بهم.. ألا تحس باللهفة على أهلك والشوق إليهم إذا سافرت في رحلة لا تستغرق أياما معدودات؟ ألا يعتريك –حتى- شعور بالحنين لزيارة قبور من فقدت من أهلك والذين تعلقت بهم يوما ومازال قلبك –في نقطة بعيدة منه على الأقل- مشغولا بهم؟

هل فكرت في كل ذلك؟ إن هذا بكل ما به من معان هو ما تعنيه كلمة "الوطن"..

حين تفكر في ذلك، ستكتشف –ربما فجأة- وتتأكد وتتيقن أنك –رغما عنك أو بإرادتك- تحب هذا الوطن رغم ما فيه من مساوئ قد تراها مغطية الصورة..

وقتها اسأل نفسك سؤالا واحدا: وماذا قدمت له؟ ربما ستقول: "وماذا قدم لي هو؟"، وساعتها لن أحاول إقناعك بأنه قد قدم لك الكثير –رغم أن ذلك صحيح- ولكني سأقول لك: "كن أنت البادئ بالخير" وساعتها ستجد رد الجميل على ما قدمت –إذا اعتبرنا هذا جميلا- وتأكد أنك ستنال أكثر كثيرا ما قدمت..

فلنجعل هذه الكلمات دعوة منا لأن نشعر بانتمائنا إلى بيتنا، وأهلنا، وأصدقائنا، وعملنا.. إلى بيوتنا، وشوارعنا، وطرقنا، وحينا، ومدينتنا..

باختصار: علينا أن نشعر بالانتماء لوطننا، ثم علينا أن نثبت ذلك الانتماء بأن نبذل كل ما في جهدنا –من خلال عبادتنا، عملنا، دراستنا، معاملاتنا، علاقاتنا- لإصلاح حال وطننا الذي أدركنا –أو سندرك حتما- أننا نحبه. وبعدها فلنتساءل: "وماذا قدم لنا وطننا"؟ ولكن لنبدأ أولا.